سورة القلم - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القلم)


        


{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)}
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال الليث: الإدهان اللين والمصانعة والمقاربة في الكلام، قال المبرد: داهن الرجل في دينه وداهن في أمره إذا خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر، والمعنى تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم فيفعلوا مثل ذلك ويتركوا بعض مالا ترضى فتلين لهم ويلينون لك، وروى عطاء عن ابن عباس: لو تكفر فيكفرون.
المسألة الثانية: إنما رفع {فَيُدْهِنُونَ} ولم ينصب بإضمار أن وهو جواب التمني لأنه قد عدل به إلى طريق آخر وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف أي فهم يدهنون كقوله: {فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ} [الجن: 13] على معنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ، قال سيبويه: وزعم هارون وكان من القراء أنها في بعض المصاحف: (ودوا لو تدهن فيدهنوا).
واعلم أنه تعالى لما نهاه عن طاعة المكذبين، وهذا يتناول النهي عن طاعة جميع الكفار إلا أنه أعاد النهي عن طاعة من كان من الكفار موصوفاً بصفات مذمومة وراء الكفر، وتلك الصفات هي هذه:
الصفة الأولى: كونه حلافاً، والحلاف من كان كثير الحلف في الحق والباطل، وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف ومثله قوله: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم} [البقرة: 224].
الصفة الثانية: كونه مهيناً، قال الزجاج: هو فعيل من المهانة، ثم فيه وجهان:
أحدهما: أن المهانة هي القلة والحقارة في الرأي والتمييز والثاني: أنه إنما كان مهيناً لأن المراد الحلاف في الكذب، والكذاب حقير عند الناس.
وأقول: كونه حلافاً يدل على أنه لا يعرف عظمة الله تعالى وجلاله، إذ لو عرف ذلك لما أقدم في كل حين وأوان بسبب كل باطل على الاستشهاد باسمه وصفته ومن لم يكن عالماً بعظمة الله وكان متعلق القلب بطلب الدنيا كان مهيناً، فهذا يدل على أن عزة النفس لا تحصل إلا لمن عرف نفسه بالعبودية، وأن مهانتها لا تحصل إلا لمن غفل عن سر العبودية.
الصفة الثالثة: كونه همازاً وهو العياب الطعان، قال المبرد: هو الذي يهمز الناس أي يذكرهم بالمكروه وأثر ذلك يظهر العيب، وعن الحسن يلوي شدقيه في أقفية الناس وقد استقصينا (القول) فيه في قوله: {وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ} [الهمزة: 1].
الصفة الرابعة: كونه مشاء بنميم أي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم، يقال: نم ينم وينم نماً ونميماً ونميمة.
الصفة الخامسة: كونه مناعاً للخير وفيه قولان:
أحدهما: أن المراد أنه بخيل والخير المال والثاني: كان يمنع أهله من الخير وهو الإسلام، وهذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان له عشرة من البنين وكان يقول لهم وما قاربهم لئن تبع دين محمد منكم أحد لا أنفعه بشيء أبداً فمنعهم الإسلام فهو الخير الذي منعهم، وعن ابن عباس أنه أبو جهل وعن مجاهد: الأسود بن عبد يغوث، وعن السدي: الأخنس بن شريق.
الصفة السادسة: كونه معتدياً، قال مقاتل: معناه أنه ظلوم يتعدى الحق ويتجاوزه فيأتي بالظلم ويمكن حمله على جميع الأخلاق الذميمة يعني أنه نهاية في جميع القبائح والفضائح.
الصفة السابعة: كونه أثيماً، وهو مبالغة في الإثم.
الصفة الثامنة: العتل وأقوال المفسرين فيه كثيرة، وهي محصورة في أمرين أحدهما: أنه ذم في الخلق والثاني: أنه ذم في الخلق، وهو مأخوذ من قولك: عتله إذا قاده بعنف وغلظة، ومنه قوله تعالى: {فاعتلوه} [الدخان: 47] أما الذين حملوه على ذم الخلق فقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد قوي ضخم.
وقال مقاتل: واسع البطن، وثيق الخلق وقال الحسن: الفاحش الخلق، اللئيم النفس وقال عبيدة بن عمير: هو الأكول الشروب، القوي الشديد وقال الزجاج: هو الغليظ الجافي.
أما الذين حملوه على ذم الأخلاق، فقالوا: إنه الشديد الخصومة، الفظ العنيف.
الصفة التاسعة: قوله: {زَنِيمٍ} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في الزنيم أقوال: الأول: قال الفراء: الزنيم هو الدعي الملصق بالقوم وليس منهم، قال حسان:
وأنت زنيم نيط في آل هاشم *** كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
والزنمة من كل شيء الزيادة، وزنمت الشاة أيضاً إذا شقت أذنها فاسترخت ويبست وبقيت كالشيء المعلق، فالحاصل أن الزنيم هو ولد الزنا الملحق بالقوم في النسب وليس منهم، وكان الوليد دعياً في قريش وليس من سنخهم ادعاه بعد ثمان عشرة (ليلة) من مولده. وقيل: بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت هذه الآية والقول الثاني: قال الشعبي هو الرجل يعرف بالشر واللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها والقول الثالث: روى عن عكرمة عن ابن عباس قال: معنى كونه زنيماً أنه كانت له زنمة في عنقه يعرف بها، وقال مقاتل: كان في أصل أذنه مثل زنمة الشاة.
المسألة الثانية: قول: {بَعْدَ ذَلِكَ} معناه أنه بعدما عدَّ له من المثالب والنقائص فهو عتل زنيم وهذا يدل على أن هذين الوصفين وهو كونه عتلاً زنيماً أشد معايبه لأنه إذا كان جافياً غليظ الطبع قسا قلبه واجترأ على كل معصية، ولأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الولد، ولهذا قال عليه الصلاة السلام: لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده وقيل: هاهنا {بَعْدَ ذَلِكَ} نظير {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ} [البلد: 17] وقرأ الحسن (عتل) رفعاً على الذم.
ثم إنه تعالى بعد تعديد هذه الصفات قال:


{أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)}
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: اعلم أن قوله: {أَن كَانَ} يجوز أن يكون متعلقاً بما قبله وأن يكون متعلقاً بما بعده أما الأول: فتقديره: ولا تطع كل حلاف مهين أن كان ذا مال وبنين، أي لا تطعه مع هذه المثالب ليساره وأولاده وكثرته، وأما الثاني: فتقديره لأجل أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال: أساطير الأولين، والمعنى لأجل أن كان ذا مال وبنين جعل مجازاة هذه النعم التي خولها الله له الكفر بآياته قال أبو علي الفاسي: العامل في قوله: {أَن كَانَ} إما أن يكون هو قوله: {تتلى} أو قوله: {قَالَ}. أو شيئاً ثالثاً، والأول باطل لأن {تتلى} قد أضيفت {إِذَا} إليه والمضاف إليه لا يعمل فيما قبله ألا ترى أنك لا تقول: القتال زيداً حين يأتى تريد حين يأتي زيداً، ولا يجوز أن يعمل فيه أيضاً {قَالَ} لأن {قَالَ} جواب {إِذَا}، وحكم الجواب أن يكون بعدما هو جواب له ولا يتقدم عليه، ولما بطل هذان القسمان علمنا أن العامل فيه شيء ثالث دل ما في الكلام عليه وذلك هو يجحد أو يكفر أو يمسك عن قبول الحق أو نحو ذلك، وإنما جاز أن يعمل المعنى فيه، وإن كان متقدماً عليه لشبهه بالظرف، والظرف قد تعمل فيه المعاني وإن تقدم عليها، ويدلك على مشابهته للظرف تقدير اللام معه، فإن تقدير الآية: لأن كان ذا مال وإذا صار كالظرف لم يمتنع المعنى من أن يعمل فيه، كما لم يمتنع من أن يعمل في نحو قوله: {يُنَبّئُكُمْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] لما كان ظرفاً، والعامل فيه القسم الدال عليه قوله: {إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} فكذلك قوله: {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} تقديره: إنه جحد آياتنا، لأن كان ذا مال وبنين أو كفر بآياتنا، لأن كان ذا مال وبنين.
المسألة الثانية: قرئ: {أَأن كَانَ} على الاستفهام، والتقدير: ألأن كان ذال مال كذب، أو التقدير: أتطيعه لأن كان ذا مال.
وروى الزهري عن نافع: إن كان بالكسر، والشرط للمخاطب، أي لا تطع كل حلاف شارطاً يساره، لأنه إذا أطاع الكافر لغناه فكأنه اشترط في الطاعة الغنى، ونظير صرف الشرط إلى المخاطب صرف الترجي إليه في قوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} [طه: 44].
واعلم أنه تعالى لما حكى عنه قبائح أفعاله وأقواله قال متوعداً له:


{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الوسم أثر الكية وما يشبهها، يقال: وسمته فهو موسوم بسمة يعرف بها إما كية، وإما قطع في أذن علامة له.
المسألة الثانية: قال المبرد: الخرطوم هاهنا الأنف، وإنما ذكر هذا اللفظ على سبيل الاستخفاف به، لأن التعبير عن أعضاء الناس بالأسماء الموضوعة، لأشباه تلك الأعضاء من الحيوانات يكون استخفافاً، كما يعبر عن شفاه الناس بالمشافر، وعن أيديهم وأرجلهم بالأظلاف والحوافر.
المسألة الثالثة: الوجه أكرم موضع في الجسد، والأنف أكرم موضع من الوجه لارتفاعه عليه، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية، واشتقوا منه الأنفة، وقالوا: الأنف في الأنف وحمى أنفه، وفلان شامخ العرنين، وقالوا في الذليل: جدع أنفه، ورغم أنفه، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة، لأن السمة على الوجه شين، فكيف على أكرم موضع من الوجه.
المسألة الرابعة: منهم من قال: هذا الوسم يحصل في الآخرة، ومنهم من قال: يحصل في الدنيا، أما على القول الأول: ففيه وجوه أولها: وهو قول مقاتل وأبي العالية واختيار الفراء: أن المراد أنه يسود وجهه قبل دخول النار، والخرطوم وإن كان قد خص بالسمة فإن المراد هو الوجه لأن بعض الوجه يؤدي عن بعض.
وثانيها: أن الله تعالى سيجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل القيامة، إنه كان غالياً في عداوة الرسول، وفي إنكار الدين الحق.
وثالثها: أن في الآية احتمالاً آخر عندي، وهو أن ذلك الكافر إنما بالغ في عداوة الرسول وفي الطعن في الدين الحق بسبب الأنفة والحمية، فلما كان منشأ هذا الإنكار هو الأنفة والحمية كان منشأ عذاب الآخرة هو هذه الأنفة والحمية، فعبر عن هذا الاختصاص بقوله: {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم}، وأما على القول الثاني: وهو أن هذا الوسم إنما يحصل في الدنيا ففيه وجوه:
أحدها: قال ابن عباس سنخطمه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش.
وروي أنه قاتل يوم بدر فخطم بالسيف في القتال.
وثانيها: أن معنى هذا الوسم أنه يصير مشهوراً بالذكر الرديء والوصف القبيح في العالم، والمعنى سنلحق به شيئاً لا يفارقه ونبين أمره بياناً واضحاً حتى لا يخفى كما لا تخفى السمة على الخراطيم، تقول العرب للرجل الذي تسبه في مسبة قبيحة باقية فاحشة: قد وسمه ميسم سوء، والمراد أنه ألصق به عاراً لا يفارقه كما أن السمة لا تنمحي ولا تزول ألبتة، قال جرير:
لما وضعت على الفرزدق ميسمي *** وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
يريد أنه وسم الفرزدق (والبعيث) وجدع أنف الأخطل بالهجاء أي ألقى عليه عاراً لا يزول، ولا شك أن هذه المبالغة العظيمة في مذمة الوليد بن المغيرة بقيت على وجه الدهر فكان ذلك كالموسم على الخرطوم، ومما يشهد لهذا الوجه قول من قال في {زَنِيمٍ} إنه يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها.
وثالثها: يروى عن النضر بن شميل أن الخرطوم هو الخمر وأنشد:
تظل يومك في لهو وفي طرب *** وأنت بالليل شراب الخراطيم
فعلى هذا معنى الآية: سنحده على شرب الخمر وهو تعسف، وقيل للخمر الخرطوم كما يقال لها السلافة، وهي ما سلف من عصير العنب، أو لأنها تطير في الخياشيم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8